شبح التوريث القادم



أصبح المجتمع برمته مأزوما لدرجة أنه أصبح مستعدا لقبول أى حاجة وأى مشروع حتى لو كان التوريث


لم يعد من الممكن مقاومة التوريث من القوى السياسية،وباتت هناك إمكانية أن ترفضه بعض المؤسسات السيادية داخل الدولة بشرط ألا تحمل أى صفات انقلابية.


ستحتاج مصر إلى بديل من داخل المؤسسات السيادية، ولكنه لا يجب أن يحمل كل صفاتها، تماما كما تحتاج مصر إلى سياسيين من خارج ثقافة الدكاكين الحزبية وغير مصابين «بعمى أيديولوجى» يجعلهم غير قادرين على قراءة الواقع كما هو.
كتب عمرو الشوبكي

لم يبدُ شبح التوريث قريباً من الحقيقة أكثر من اليوم، ولم يعد هناك أى حواجز تُذكر أمام تحول هذا «الشبح» إلى واقع مثلما هو الحال الآن، ولم يهيأ المسرح السياسى وغير السياسى لتقبل هذا «المولود» الجديد مثلما يجرى الآن، فأصبح كل شىء معداً «الممثلون» و«الكومبارس» والمصفقون وربما حتى المنافسون والخصوم.
والحقيقة أن نجاح مشروع التوريث لا يتمثل فى قدرته على الوصول للسلطة، إنما فى نجاحه المؤكد فى تهيئة المجتمع والمسرح السياسى لقبوله أو حتى التعايش معه، وظلت معارضته وسط بعض النخب محدودة التأثير أو عبر فضاء العالم الإلكترونى أو على سلالم نقابة الصحفيين، بحيث من الصعب القول إن هناك تياراً أو تيارات سياسية قادرة على مواجهة مشروع التوريث بالاعتماد على الشارع والرأى العام، الذى غيب من المعادلة السياسية وهمش اجتماعيا وعانى من قهر السلطة وسطوتها.
والسؤال: كيف بدا المجتمع عاجزا عن القيام بأى مقاومة سياسية حقيقية لمشروع التوريث؟ المؤكد (وكما أشرنا مرارا) أن الذى حدث فى العقود الثلاثة الأخيرة لم يكن مجرد صدام سياسى بين السلطة والمعارضين، كما جرى فى عهود سابقة، إنما كان أيضا سوء إدارة وانعدام كفاءة جعل مؤسسات الدولة المصرية فى وضع غير مسبوق من التدهور من تعليم وصحة وإعلام وقضاء ومؤسسات سيادية (راجع حديث المستشار هشام البسطويسى عن طرق إفساد القضاء بالمعنى المهنى قبل السياسى) هذا الوضع جعل هناك تربة خصبة لقبول أى شىء مهما كان مهينا وجارحا، خاصة بعد أن دعمتها نظريات جديدة فى «علم السياسة» تقول «إن جمال مبارك جرب السلطة والمال وبالتالى فهو شبعان» و«أن من نعرفه أفضل ممن لا نعرفه» وهى كلها نظريات من المهم ترجمتها حتى تصبح «إسهاما» مصريا عالميا!!
لقد كان من الطبيعى أن تنتشر مثل هذه «النظريات»، بعد أن استبعد بقسوة كل من حاول فقط أن يكون محترما معتزا بنفسه مخلصا فى عمله وأيضا للنظام القائم، بدءا من كمال الجنزورى إلى المشير أبوغزالة وغيرهم من الوزراء وكبار المسؤولين، حتى اختفت هذه النوعية من الساحة السياسية والمهنية، بل إن بعض من كان مشهودا لهم بالكفاءة بدأ فى ترديد كلام باهت وسخيف، بمجرد تقلده منصبا، ويا حبذا لو فسد أو أفسد حتى يضمن مكافأة مجزية كما جرى مع الوزير السابق الذين عين فى «منصب بترولى» ليحصل على راتب مليون جنيه شهرياً.
إن مصر التى شهدت توريثا فى كل مؤسساتها على حساب الكفاءة، أصبحت غير معنية كثيرا بأن تورث المنصب الأرفع فى حكم البلاد، وأصبح تواطؤ السلطة والمجتمع على إبقاء مصر على ما هى فيه أمرا ملحوظا فى كل المجالات، فالاحتجاجات المسموح بها هى الاحتجاجات الاجتماعية البعيدة عن السياسة والسياسيين، وهذه من الوارد أن تتنازل فيها الحكومة وتصل لاتفاقات وحلول وسط حتى لو كانت أحيانا على حساب المجتمع والقانون.
هل يعقل أن يكون جزء من حل مشكلة السائقين المضربين فى مصر هو رفع المخالفات المرورية عنهم؟ هل هناك جرم وتواطؤ بين السلطة والمحتجين على حساب المجتمع أكثر من ذلك؟ من الطبيعى أن يطالب العمال برفع الأجور وزيادة الراتب، ولكن هل يمكن أن تقبل حكومة محترمة فى الدنيا أن تتنازل عن تحصيل مخالفات المرور إلا فى مصر، فطالما أن الضحايا هم من المصريين فلا بأس أن تقوم سيارات النقل العام بممارسة كل صور المخالفات على طريقة الكبير يأكل الصغير (بما أنهم يقودون عربات كبيرة) ولن يحاسبوا.
وطالما أن هناك تواطؤاً من الحكومة على تقبل مثل هذه التصرفات، وطالما أن «نضالات» المجتمع توقفت عند رفع الرواتب ( على مشروعيتها) وإلغاء المخالفات، فكيف يمكن أن نتصور أن يهتم مجتمع بهذه الحالة بمقاومة التوريث أو حتى أن يجذب اهتمامه.
إننا أمام فشل مجتمعى وليس فقط فشل أو صراع سياسى على السلطة، فقد فشلت الحكومة فى ترجمة الدردشة حول الإصلاح السياسى إلى واقع، كذلك فشلت الأحزاب السياسية فى أن تكون قوة مؤثرة، وانتهت الحركات الاحتجاجية السياسية، وفشل الإخوان فى أن يتحولوا إلى تيار سياسى مدنى يؤمن بالديمقراطية والمواطنة، وتعثرت منظمات المجتمع المدنى، وفشل المثقفون والكتاب فى أن يشكلوا تيارا متجانسا يساهم فى عملية الإصلاح السياسى، وتعايشنا جميعا مع «جمهورية الكلام» وثقافة الفوازير والمسلسلات والفتاوى بعبقرية نادرة، بحيث أصبح المجتمع برمته مأزوما لدرجة أنه أصبح مستعدا لقبول أى حاجة وأى مشروع حتى لو كان التوريث.
ولعل من هنا تكمن مشكلة هذا المشروع فى أنه جعل المجتمع على هذا النحو المتبلد، فنجاحه المعنوى - متمثلا فى عدم قدرة المجتمع على مقاومته - هو أكبر كارثة حلت بمصر فى الفترة الأخيرة، بصرف النظر عن نجاحه المادى متمثلا فى وصوله عملياً للسلطة أم لا.
إن نجاح مشروع التوريث فى تهديد النظام الجمهورى جعل كثيراً من الناس يتحسرون على دعم الشعب المصرى لانقلاب عسكرى قضى على الديمقراطية المتعثرة فى يوليو ٥٢ من أجل بناء نظام جمهورى بشّرهم بالعدالة والمساواة والتحرر، وكانوا رجاله فى المعارك والهموم، وحين جاءت مرحلة قطف الثمار بعد انتهاء الحروب أخذتها قلة قليلة من نخبته تاركة للشعب الفتات.
لم يعد من الممكن مقاومة التوريث من القوى السياسية، وباتت هناك إمكانية أن ترفضه بعض المؤسسات السيادية داخل الدولة بشرط ألا تحمل أى صفات انقلابية، فنحن بحاجة إلى «فيتو سياسى» على وضع يرتدى زى قانونى (ترشيح جمال مبارك فى انتخابات رئاسية صورية) وهو فى الحقيقة إنهاء للنظام الجمهورى، ووراثة بلد تدهورت كل مؤسساته وفقد الشعب رغبته فى العمل والإنتاج لأنه يعيش فى ظل حكم نقل مشروعه القومى من السد العالى إلى توريث السلطة.
ستحتاج مصر إلى بديل من داخل المؤسسات السيادية، ولكنه لا يجب أن يحمل كل صفاتها، تماما كما تحتاج مصر إلى سياسيين من خارج ثقافة الدكاكين الحزبية وغير مصابين «بعمى أيديولوجى» يجعلهم غير قادرين على قراءة الواقع كما هو، وأخيرا تحتاج مصر إلى محتجين مثل موظفى الضرائب العقارية، يعتبرون أن الدفاع عن حقوقهم لا يكون تحت أى ظرف على حساب حقوق المجتمع ولا القانون.
إن المجتمع المريض أفرز ظواهر اجتماعية وسياسية كثيرة مريضة، ولا يجب اعتبار أى من هذه الظواهر مخلصاً سحرياً لأمراض المجتمع، فمصر ستحتاج إلى معجزتين لتتعافى من أمراضها، الأولى أن توقف مشروع التوريث، والأخرى تعيد الروح مرة أخرى للمجتمع المصرى، وهذا فيه رهان على غير المرئى، وربما دعاوى المصريين ونوايا بعضهم الطيبة.