فى مفهوم الكثيرين ، أن السياسة لاعلاقة لها بالأخلاق ، وأن السياسة تعنى ان تتحالف مع الشيطان بل ان تكون الشيطان نفسه حتى تصل الى اهدافك ، وهذا فى اعتقادى فيه جزء كبير من الحقيقة والواقعية ، ولكن لكل شىء حدود ، وهذه الحدود تحددها المبادىء والمعتقدات التى يعتنقها الممارس للسياسة ، بحيث يكون أى تنازل يقوم به فى الممارسة السياسية لايتعارض مع ثوابته ومعتقداته أو الصالح العام ، وهنا تدخل السياسة فى نطاق "الغير اخلاقى" .
هذا مجرد طرح متواضع منى عن مفهوم "الاخلاق فى السياسة" أقتنعت به بناءاً على تجربتى الشخصية فى المعارضة المصرية ، وقد تختلف معه أو تتفق . والمثال الاوضح للسياسة "الغير الاخلاقية" فى التاريخ القريب ، هو مافعله الرئيس السادات بدعم تيارات الاسلام السياسى فى السبعينات للإطاحة بالتيارات الإشتراكية والناصرية القوية فى تلك الفترة ، فى مقابل التضحية بمبدأ "مدنية الدولة" الذى كان من اهم ثوابت الدولة المصرية الحديثة منذ إنشاءها على يد محمد على ، وقد دعمت ثورة يوليو هذا الاتجاه الذى اراه أنا شخصياً بأنه حميد _ ولكن ليس بالدرجة الكافية ، وذلك لغياب الليبرالية التى تستطيع حماية هذه المدنية . ولم يكن هذا هو المثال الوحيد للسياسة "الغير الاخلاقية" فى عهد السادات ، فقد كان صلحه المنفرد مع إسرائيل هو تجسيد اخر لها بإتخاذه قرار عزل مصر داخل حدودها وعدم اهتمامه بقيادة وطن عربى من حوله يحتاج لقيادة مثل مصر كما أن مصر تحتاج له للدفاع عن امنها القومى ، وقد كان هذا أحد ثوابتنا ايضا التى ضحينا بها من اجل سلام منقوص مع غسرائيل ادى بنا الى ما نحن فيه الان . ولكن ما أهمية هذا الكلام ، اهميته ان هذا الإرث الردىء من الممارسة السياسية "الغير الاخلاقية" أصبح هو المفهوم السائد بشكل عام للمارسة السياسية ، سواء للحزب الحاكم او حتى بين صفوف المعارضة ، ولذلك وصل بنا مستوى الاداء السياسى الى الحضيض ، وكثرت الاتهامات بالعمالة والتخوين ، وحتى السباب ، حتى اصبحت السمة المميزة للممارسة السياسية فى مصر ، فنحن جميعاً لانثق ابداً فى بعضنا البعض _ حتى مع من نقيم معهم تحالفات _ كما اننا لا نستطيع قبول رأى أو طرح مختلف الا واثرنا الشكوك من حوله وحول نوايا هذا الطرح ، هذا هو اسلوب التعامل السياسى الذى تربينا عليه بعد ان اصبح الفكر السائد هو ان اى شخص من الممكن ان يشترى . ولكن الكارثة الكبرى فى هذا الارث من عهد السادات ، هو التحالف الجهنمى الذى نشأ بين النظام الحاكم وتيارات الاسلام السياسى ، فبرغم ان السادات نفسه دفع الثمن ، بل والبلد كلها حتى أواخر التسعينات ،فإن النظام الحاكم لم يزل يراه أداة مفيدة لتنفيذ كثير من مخططاته ، بل ان كثيرين من المنتسبين للحزب الوطنى "الليبرالى" يعتنقون افكار هذه التيارات ، حتى انك لاتكاد تفرق بينهم وبين الاخوان المسلمين فى مجلس الشعب عند مناقشة اى قضية دينية ، وهو ما أدى بنا للحالة الراهنة بأننا نعلم جميعاً أن "مدنية الوطن" قد ذهبت أدراج الريح .
إن هذا التحالف الجهنمى "الخفى" ليس دائماً بالطبع ، فأجهزة الامن تعلمت من درس السادات بالأ يتجاوز الخطوط الحمراء المخصصة لهم والإ كان المصير هو الاعتقال الفورى ، ولكنه يطفو الى السطح فى احوال معينة ، عندما تتلاقى مصلحة الطرفين ، وأنا أبشركم بأن هذا الوقت قد اقترب وأن المصالح بدأت فى دخول مرحلة التلاقى .
ومشروع التورث هو نقطة التلاقى القادمة بين هذين التيارين الذين لايبغيان الا مصلحتهم الخاصة فوق مصلحة الوطن ، فمن المعروف طبعاً أن جهاز أمن الدولة هو اليد المنفذى لاوامر أمانة السياسات لتمرير هذا المشروع بأى وسيلة ، ولكن ما لايعرفه الكثيرون أن تيارات الاسلام السياسى _ من جماعات أو حتى أحزاب _ وصلت لاقتناع بأن قدوم جمال مبارك قد يكون أفضل الخيارات بالنسبة لهم _ كخطوة تمهيدية للوصول للحكم . فهم بالطبع لاينوون حتى محاولة طرح اى مرشح للرئاسة فى الفترة القادمة _ فهم يقرءون الواقع السياسى جيداً _ كما أنهم ايضاً _ وبحكم قراءتهم الجيدة تلك _ يعرفون أن النظام القادم سيكون إما جمال أو مرشح القوات المسلحة وهو اللواء عمر سليمان .
ولماذا يختار المتأسلمين جمال مبارك ؟ الأرجح انهم يعلمون انه اذا اتى سوف يكون بلاشرعية تذكر ، وقد يحاول التودد لهم لانه يحتاج لتأييد شعبى ، كما أن حالة من السخط الشديد سوف تسود بين جميع طبقات الشعب ، وهو مابرعوا فى توظيفه لصالح التوسع فى قواعدهم الشعبية ، أما أهم سبب فى اعتقادى هو انه ملائم جداً لان يكون "السلمة" التى تصل بهم الى الحكم من بعده ، فإذا تم استثمار حالة السخط العام لصالحهم مع عدم وجود تأييد كاف لجمال داخل الجيش ، فالأنقلاب عليه سوف يكون مهمة اسهل نسبياً من الانقلاب على رئيس من داخل الجيش ، كما أنه سوف يساعدهم على نشر تيارهم لسببين : اولهما ، للاستمرار فى سياسته فى قمع التيارات والاحزاب الليبرالية ، وعدم إعطاءها الفرصة كى يبقى حزبه الوطنى هو الخيار الوحيد ، وثانياً ، لاستخدامهم كفزاعة _ كما اعتادوا وأعتدنا _ للغرب لضمان استمراره فى السلطة . وبذلك تتضح لنا معالم التحالف الجديد القادم ، ولكن لاتكتمل ملامح هذا التحالف الا اذا استعرضنا اسباب معارضتهم لعمر سليمان ، من البديهى ان نبدأ بأنه لايتوفر فيه كل ماذكرته انفاً عن جمال مبارك كرئيس ، ولكن زاد عليه الدور الذى يقوم به اللواء عمر سليمان فى توحيد الصف الفلسطينيى والضغط على ابنتهم البارة_حماس_ كى يتواصلوا لاتفاق مع فتح ، وكأن هذا الدور جريمة ، من هنا جاء استخدامهم لألفاظ العمالة والتخوين _كما اعتادوا بوصف كل من يخالفهم الرأى _ لإظهاره بأنه هو السبب فى معاناة الشعب الفلسطينى ، بل والمنفذ للأجندة الاسرائيلية والامريكية _ بالمرة .
لقد نجحوا فى الاونة الاخيرة فى تحويل القضية الفلسطينية الى قضية حماس ، أما فتح فهم خونة ، نحن هنا لسنا بصدد الحكم على اى منهما ، فكلاهما أخطأ أخطاء جسيمة أضرت بالقضية الفلسطينية ككل ، والسبيل الوحيد للعودة للطريق الصحيح هو ان تعود قضية فلسطين قضية قومية وليست دينية ، وقضية كل الفلسطينين وليس حماس وحدها ، أما عن دور اللواء عمر سليمان فأنا لست مطلع على تفاصيله _ ولا أى منا _ لكى أحكم عليه ، غير انه يحاول العمل بما هو متاح له ، فلم يكن هو م اتخذ قرار السلام مع اسرائيل ولا هو من جاء بالهيمنة الامريكية على المنطقة ، فذلك كله موجود قبل ظهوره فى الصورة ، حتى حرب غزة الاخيرة ، فالقرار لم يزل فى يد الرئيس مبارك وحده ومن يعلم شخصية الرئيس مبارك يعلم انه قلما يستمع الى احد ، حتى وان كان من كبار مساعديه .
ومع هذا ، أنا لا أقول بأنه سوف يكون افضل من يخدم القضية الفلسطينية ، ولكن بالمقارنة مع جمال مبارك الذى هو على استعداد لبيع اى شىء للوصول لكرسى الحكم ، فهو بالتأكيد أفضل .
كلمتى الاخيرة للأخوة الذين يؤمنون بأهمية القومية العربيى ووحدة صفها_ وأنا منهم ، أرجوكم لاتنجروا وراء اسلوب رمى الاتهامات من نوعية (العميل الصهيونى والامريكى) وما إلى ذلك ، وانتم تعرفون جيداً ان التيارات المتأسلمة إنما تتخذ مثل هذه الشعارات حتى تصل الى مأربها ، وانتم تعلمون ما سوف يفعلون بالجميع حين يحدث ذلك .
فهم لن يأيدوا جمال مبارك صراحة ، ولكن عن طريق التقليل من شأن أى مرشح واقعى يمكن له ان يقف أمامه .