فرصة افضل للتغيير


التغيير . . . هذا هو ما تطمح اليه كل القوى الوطنية الحقيقية فى مصر بعد الشرارة التى اطلقتها حركة كفاية عام 2005 ، وقد وضعت لهذا التغيير انذاك شعارين رئيسيين هما الأصدق على مر الثلاثون عاماً الماضية ، وهما "لا للتمديد .. ولاللتوريث" ، وهى بذلك حركت مياه راكدة مازالت اثارهما ممتدة حتى الان رغم التفكك والتشرذم الذى أصاب حركة كفاية وجميع الحركات الوطنية بعد ذلك . وعبقرية هذين الشعارين هما انهما لخصا مشاكل مصر فى العقود الماضية فى شخص الرئيس مبارك ومشروع توريث ابنه من بعده ، ولكن سلبيته الاساسية انه لم يطرح البديل المناسب

ثم جاءت الانتخابات الرئاسية وتم التمديد كما تم المضى قدماً فى مشروع التوريث وهو ما كان بمثابة ضربة قاصمة لحركة كفاية وشعاراتها ، وانتهى تقريباص دورها ولكن التاريخ سيذكر لها دائماً هذا الدور فى دفع كل من يهمه امر هذا الوطن لان يسعى كل بطريقته فى سبيل الهدف الاسمى وهو التغيير ، فنحن جميعاً ندين لها بالفضل فى هذا . ومنذ ذلك الحين تكونت العشرات إن لم يكن المئات _ من الكيانات المختلفة_من حركات وروابط وتجمعات وحتى احزاب جديدة_تحاول طرح سيناريوهات مختلفة للتغيير ، والعامل المشترك الاساسى لهذه السيناريوهات هو أن الحرية والديمقراطية ينبغى ان يكونا هما اساس هذا التغيير ، وانه بدونهما لن يكون هناك معنى للتغيير ، يأتى بعد هذا مطالب أخرى كثيرة مثل تغيير الدستور ووضع اليات لمراقبة ومحاسبة رئيس الجمهورية وتحديد مدته .. إالخ .

ومع وجود هذه الارضية الواسعة بين قوى المعارضة المختلفة على ماهية هذا التغيير ، الا ان النظام تجاهل تماما كل نداءتهم ، بل وانه حتى اتخذت خطوات فى الاتجاه المعاكس فى صورة التعديلات الدستورية الأخيرة ، وأنا ارجع هذا التجاهل لثلاث اسباب رئيسية :

1- التخفيف من الضغوط الخارجية التى مارستها الولايات المتحدة فى اعوام 2005/2006 وكانت هى العامل الاكبر الضاغط على النظام شئنا أم أبينا ، فالنظام يعلم تماما انها الضامن الوحيد لبقاؤه ولتمرير مشروع التوريث ، وقد نوقشت اسباب تخفيف هذا الضغط فى مقالات كثيرة ولا لزوم للخوض فيها الان .

2-

المضى قدماً فى مشروع التوريث عن طريق تسليم مقدورات البلاد الاقتصادية لمجموعة ضيقة من رجال الاعمال مع دمجهم فى المشروع السياسى لنجل الرئيس فى امانته بالحزب الوطنى ، وبهذا تسيطر مجموعة صغيرة من رجال الاعمال بأمانة السياسات على الحصة الاكبر من الثروة البلاد لتستخدم هذه الثروة فى حينها لاتمام مشروع التوريث عن طريق صندوق انتخابات كما هو مخطط ، فهذه الزمرة قادرة بالفعل على رشوة الناخبين لينتخب من يرديون ، مع حرصهم التام لعدم نشر ثقافة الديمقراطية الحقيقية بين عموم الشعب وحرصهم الاكبر فى استخدام الرشاوى الانتخابية فى كل مناسبة متاحة لتصبح جزء متأصل من ثقافة الشعب المصرى ، يجعل دائماً السلطة فى يد من يملك المال ، ولكنهم لايملكون المال بالطبع وحده بالطبع ، فوزارة الداخلية بأكملها مسخرة لخدمة هذا المشروع بكافة أقسامها ، وبهذا يصبح الشعب محاصر من القبضة الامنية الباطشة من جهة واصحاب المال والاعمال من جهة اخرى !! أين يذهب هذاا لشعب المسكين الذى يقع معظمه تحت خط الفقر مع جهله التام _ حتى الميسورين منهم_لحقوقه وواجباته تجاه النظام الذى يحكم

السبب الثالث والاخير لتجاهل النظام كل نداءاتنا من اجل الاصلاح هو العامل الوحيد الذى نملك تغييره بأيدينا ، فهذا هو تفكك وتشرذم القوى الوطنية وعدم استطاعتها توحيد الصفوف ، مع عدم قدرتها على وضع تصور ورؤية واقعية وعلمية للطريق الذى يجب ان نمشى عليه لنصل للتغيير المنشود ، وهو ما ساعد على الوصول بنا الى حالة غير مسبوقة من اليأس فى التغيير .

فهذه القوى تحدثت عن اليات مختلفة كلها جميلة ورائعة إن تحققت ، ولكن بعدها عن الواقع المصرى الذى نعيشه أدى بنا الى هذا اليأس الذى تسلل الى قلوبنا جميعاً ، بعض أمثلة هذه الاليات :

أ/ مخاطبة النظام واستسماحه فى ان يعطينا بعض الحقوق(وكأن الحداية بتحدف كتاكيت على رأى المثل الشعبى)فحتى وان كان الرئيس مبارك فى اخر ايامه ، فمشروع التوريث يلغى اى تحرك فى اتجاه لايخدم مجىء جمال مبارك لعرش مصر .

ب/الدعوة لثورة شعبية تطيح بالاخضر واليابس وتأتى بزعماء هذه الثورة ليتولوا قيادة البلاد ، هذا أضعه فى خانة افلام الخيال العلمى ، فمن يراهم على هذا لم يقرأ تاريخ مصر جيداً ، فمصر فمصر لم تثر أبدا الا على المحتل الاجنبى ، والاستثناء الوحيد كان مظاهرات رغيف العيش فى 1977م عندما كان هناك تنظيمات سرية وثقافة سياسية عند المواطن العادى نفتقدها تماماً الان ، وححتى فى هذه المظاهرات كان نزول الجيش للشارع هو عامل الحسم _ اى ان الكملة العليا لم تزل مع النظام حتى وان كان بعض المحللين يرون هذا ممكناً فى ظل الوضع الاقتصادى المزرى للشعب المصرى ، فإمكانية حدوثه فى السنتين القادمتين هو امر مستبعد للغاية ، وانتظارنا لحدوثه ما هو الا يأس شديد مننا لاننا نعلم جيداً أنه ليس بمقدور اى قوة سياسية فى مصر ان تدفع فى هذا الاتجاه ، فلا توجد تنظيمات تضم الاعداد المطلوبة ولاالقبضة الامنية المحكمة ستسمح لاحد بتعبئة الجماهير ، وبهذا يكون مجرد الرهان على هذه الالية للتغيير مجرد امعان فى السلبية وتملص من مسئولياتك تجاه بلدك .

ج/ بعض التيارات تجد فى الدعوة للعامل الخارجى هو المخرج الرئيسى مما نحن فيه ، وانا لا الومهم ، فمجرد تحول نظام استفتاء الرئاسة لانتخابات لم يأتى الا بضغط الولايات المتحدة ولكنهم بذلك يضعون مقدارتنا فى ايد من لايهمه الا مصالحه السياسية ، ليس عيباً فى ان تستغل الموقف فى حالة ان التقت مصالحنا مع الخارج ، ولكن هذا لايحدث كثيراً ، وبالتالى لايمكن ان نعول عليه_كما اثبتت التجربة فى 2005/2006

د/ أوجدت حالات الاضرابات والاعتصمات التى حدثت بداية 2007 حتى الان حالة من الامل والتمنى عند الكثرين ، وانا مهم ، فى ان العصيان المدنى هو الطريق الاصلح للحرية والديمقراطية ، وقد حاولت كثير من التيارات الوطنية توظيف هذه الاضرابات الفئوية لخدمة الهدف الاسمى ، وقد كان يوم 6ابريل 2008 هو من العلامات المضيئة لهذه المجهودات ولكن ماحدث بعد هذا اليوم اوضح لنا صعوبة تنفيذ هذا المخطط وهو ما أرجعه لنفس الاسباب التى ذكرتها سابقاً من غياب الثقافة السياسية والكيانات التنظيمية التى تستطيع توظيف هذه الاضرابات ، فمازالت وستستمر المطالب الفئوية لكل مجموعة تقوم بإضراب هى السائدة مع سهولة إقناعهم ببضع جنيهات بسيطة زيادة فى المرتب لكى يتخلوا عن إضرابهم ، مع بعض التخويف الامنى ، ثم ان ماحدث فى المحلة يوم 6ابريل بالمحلة كان جزء من صراع اخر داخل النظام ، ليس للشعب دخل فيه ، لانه ببساطة على درجة عالية من التنظيم لايقدر عليه سوى جهاز امنى _ أى المخابرات .

ه/أخيراً نأتى لمجاهدى الندوات والصالونات ، وما اكثرهم ، وانا شخصياً اتعاطف معهم كثيراً لان هذا لم يكن خيارهم بقدر ما كان الخيار المفروض عليهم من الامن ، وهذا يضم ايضاً بعض الاحزاب التى تحاول ولكنها ايضا لم تستطع الخروج عن نظام الندوات والدورات التدريبية لكوادرها . فالتضييق الامنى الذى هو حزء اساس من مشروع التوريث كما ذكرنا لن يسمح لهم بمخاطبة الشارع ، فأصبحوا بالتالى يخاطبون نفس الوجوه فى كل مناسبة مع اتخلاف المكان والزمان ، كل ما اعيبه على عليهم انهم بعد ان ادركوا انهم محاصرون فى اجتماعاتهم ، ماهو البديل العملى الذى طرحوه ليكسروا هذه القيود .

أنا مدرك تماماً أننا جميعاً حاولنا فى طريق أو اكثر من الذى ذكرتهم ، ولايعيبنا جميعاً اننا فشلنا فى كل الطرق التى اخترناها ، ولكن مايعيبنا هو الا نحاول البحث عن طرق اخرى اكثر واقعية تصل بنا الى الهد الاسمى _ الا وهو التغيير

ان السياسة تعنى ان تحاول استخدام ما هو متاح امامك لتصل الى اهدافك ، على ان يكون استخدامك هذا فى حدود قناعاتك وعلى الايضر بالامن العام ، يجب ان نعى ذلك جيداً ، خاصة عندما تكون الخيارات المطروحة امامنا محدودة للغاية . من هذا المنطلق كان اقتناع البعض باللواء عمر سليمان كأفضل الخيارات المطروحة وأوقعها ، فربما يمثل فرصة أفضل للتغيير .

اذا اردنا نقاش الخيارات المطروحة ، فالخيار الامثل هو أن نأتى برئيس مدنى منتخب فى انتخابات ديمقراطية حقيقية ، ينقل مصر لعهد جديد من الحرية والديمقراطية لكننى هنا أجدنا نعيش فى اوهام اننا نجبر النظام الحالى على هذا الخيار عن طريق أحد الاليات التى سبق وشرحتها مع علمنا التام بفشلها كلها ، فهذا يمكن ان يحدث عندما نملك نظام ديمقراطى حقيقى .

نستطيع ان نفرض به ارادتنا ، وان كنا لانملكه حالياً ، فما هو المتغير الذى يمكن ان يحدث فى خلال العامين القادمين الذى يفرض هذا السيناريو الأمثل ، إذا حدثت ثورة او اى شىء مشابه فهو خير وبركة ، ولكن اذا لم يحدث وهو الارجح طبعاً فماذا نفعل ؟ نجلس ننتظر الغير متوقع حتى تقع الفأس فى الراس ويأتى جمال ؟ أم يكون لدينا بديل اخر منطقى غير جمال ، يمكن ان نطلب منه إعفاء مبارك من الحكم فى 2011 ؟ نعم ، فإستمرار مبارك أو مجىء ابنه هما الخيارين الاساسيين أمامنا الان ، وكلاهما مر . فما هو اوقع ، أن يأتى شخص قوى من داخلنظام مبارك ليحل محله هو وابنه . أم ان تقوم ثورة شعبية فى مصر ؟

أنا اعرف ان عمر سليمان هو جزء مكن نظام مبارك الوصوم بالفساد ، ولكن مواصفاته الشخصية وسمعته الحسنة البعيدة عن شبهات الفساد بجانب سنه الكبير يؤهلانه ليكون افضل من مبارك وابنه ، ربما ليس افضل من مرشح مثل البرادعى ، ولكننى اذكركم ثانية اننا لسنا دولة ديمقراطية ، فهناك سبل كثيرة جداً لإبعاد اى شخصية مثل البرادعى بطرق غير مشروعة عن مجرد الترشيح للمنصب ، فمابالكم بالفوز به ، ولكن اى من هذه الطرق لن تنفع من عمر سليمان . كما ان تاريخنا القريب يعطينا درساً فى ان كل رئيس يأتى ليمحى من قبله حتى وان كان من داخل نظامه مثل عبدالناصر ، السادات . الذى طغى فى المرحلة السابقة له مع البدء الفورى فى إصلاحات ديمقراطية حقيقية لينقلنا بعد فترة رئاسته لديمقراطية حقيقية نختار فيها الأصلح كما نحلم .

هل هناك من يضمن لنا أن عمر سليمان سينفذ ما نلحم به ؟ لا طبعاً ، فربما يتمسك بالسلطة كسلفه . ولكن هنا يأتى دورنا كحركة وطنية ، نحن يجب الا ننتظر منه منحة الحرية ، بل يجب ان نناضل لانتزاعها . وما الفرق اذا ؟ الفرق فى نقطتين اساسيتين ، أولاً ، أى رئيس جديد عندما يأتى يكون اقرب للناس ولتلبية مطالبهم ، حتى الرئيس مبارك فى اول فتراته كان هكذا ، ومع الاوضاع العالمية الجديدة _غير الخمسينات والثمانينات_سوف تكون عامل إضافى للضغط عليه وتصعب من عملية تأجيل أجندة الديمقراطية . ثانياً ،سن عمر سليمان وعدم وجود ابناء له يبعدان شبح الجمود والتوريث عنه اللذان هما لعنات عصر مبارك .

وأخيراً ، أرجو أن نحكم جميعاً عقولنا على عواطفنا ، ونفكر فيما هو متاح أكثر من تفكيرنا فيما نتمنى ، فإذا تمكنا من توحيد صفوف المعارضة حول مطلب واقعى وان نضغط على اللواء عمر سليمان بأن يتولى زمام القيادة فى 2011 وبعد ذلك نضغط عليه لتنفيذ اجندتنا الديمقراطية ليكون رئيساً لمرحلة انتقالية فقط ننتقل بعدها لديمقراطية حقيقية ، فسنكون بذلك معارضة فعالةبحق ، فقد رأينا أن كل ضغوطنا على مبارك وابنه اوأسوأ بالطبع_ لم تأت بنتيجة ، فليس أمامنا غير هذا الخيار المتبقى أو اليأس والبعد عن العمل العام وربما الهجرة .

لذلك فترشيح عمر سليمان ليس لكونه البطل الهمام الذى سينقذ البلد من وضعها الخالى ، ترشيحه فقط لانه مجرد فرصة افضل للتغيير.